ريم تركماني
تبرز أهداف “دعم المجتمع المدني” و”تعزيز القيم المدنية” كأحد العناصر الأساسية في العديد من برامج الدعم الغربية في العالم العربي. ومع استمرار خيبة الأمل في الحكومات في المنطقة العربية، تحول تركيز الكثير من برامج الدعم إلى المجتمع المدني ومنظماته بدلاً عن دعم مؤسسات الدولة. ومع ذلك، كثيراً ما تُقابل هذه البرامج بنوع من مقاومة محلية، مما يؤدي إلى نتائج سلبية. وقد عزز هذه الإشكالية مقاربات ومواقف بعض الباحثين وصانعي السياسات والذين يعتبرون أن مفهوم المجتمع المدني هو مفهوم حصري للغرب، مما يجعله برأيهم غير ذي أهمية في أجزاء أخرى من العالم، خاصة المجتمعات الإسلامية والعربية. بل أن بعض الباحثين مثل جيلنر يذهبون إلى أن الثقافات الإسلامية غير قادرة على إنتاج نظام اجتماعي يلائم المجتمع المدني والعلمانية. إن إحدى أسباب هذه الاشكالية هي الفجوة بين الإطار الدولي المعياري لمفهوم المجتمع المدني وبين المعنى المحلي وتصور المجتمع المحلي له.
بالنسبة للمنظمات الدولية، تميل العدسة المعيارية الغربية السائدة إلى تعريف وتأطير المجتمع المدني وما يرتبط به من قيم و إجراءات، بما في ذلك المساواة بين الجنسين والعلمانية والديمقراطية.
في العالم العربي، تطور مفهوم المجتمع المدني وقيمه والإجراءات المرتبطة به بشكل مختلف عبر السياقات التاريخية والاجتماعية المختلفة في الغرب. وعبر هذه السياقات حمل مفهوم ما هو مدني دلالات مختلفة عن تلك المرتبطة بفهم الغرب النمطي للمفهوم. فمصطلح “مدني” يحمل تاريخاً و مفهوماً واستخدامات مختلفة في العالم العربي، لا يمكن فهمها بالكامل عبر العدسة الغربية. ويستخدم المصطلح العربي “مدني” ومشتقاته للإشارة إلى المجتمع المدني، والحالة المدنية، والنظام الاجتماعي الحضري (المدني مقابل الريفي)، وللتمييز بين ما هو غير عسكري (المدني مقابل العسكري). كما استخدم أيضاً لتأطير العلاقة بين الدولة والمواطن في إطار سياسي؛ أي الدولة المدنية والتي كثيراً ما تطرح كمقابل للدولة الدينية. أدى هذا الاختلاف بين المفهوم الغربي لـ”المدني” والمفهوم المحلي له إلى إعاقة من الفهم الأكاديمي للعمليات الاجتماعية والسياسية الرئيسية في المجتمعات العربية وإلى إعاقة الجهود الرامية إلى إحداث التغيير الاجتماعي الضروري.
نأخذ على سبيل المثال حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين. تقدم العديد من برامج التدخلات الغربية لدعم هذه الحقوق في الدول العربية هذا المفهوم كقيمة غربية مفروضة على مجتمعات متخلفة. وتستخدم أطر معيارية ولغة تبدوان غريبتين لدى من هم خارج دوائر الناشطين المتصلين عالمياً. وتستغل بعض القوى التقليدية المحلية وبعض الفاعلين السياسيين ذوي النزعات الاستبدادية هذه الاشكالية، وتعيد إنتاج نسخة محلية من ادعاء عدم توافق المجتمعات العربية والإسلامية مع مفاهيم مثل المجتمع المدني والمساواة بين الجنسين.
ونتيجة لذلك، يجد الفاعلون المدنيون المحليون الذين يطالبون بالمساواة في الحقوق أنفسهم في مواجهة مفاهيم خاطئة وتصور مغلوط على الصعيدين المحلي والدولي، مما يقوض قدرتهم على الفعل ويضعف إحساسهم بالملكية لمبادراتهم. ولكن بشكل متزايد، يلجأ الفاعلون المدنيون إلى وسائل محلية وملموسة لاستخدام سرديتاهم ولغتهم المحلية في سياق ناشطيتهم بهدف التغيير وكسب جمهور حلفاء واسع داخل المجتمع. الدراما التلفزيونية المصرية “تحت الوصاية” هي مثال بارز على هذا التوظيف الهادف للسياقات والسرديات المحلية من أجل إحداث تغيير بنيوي في قضايا أساسية. ساهمت في كتابة سيناريو هذه الدراما ناشطة عانت من قانون الوصاية الصارم في مصر. وتحكي “تحت الوصاية” عن كفاح أرملة مصرية شجاعة وأولادها مع نظام الوصاية الجائر. وحققت هذه الدراما شعبية كبيرة وساهمت بفتح النقاش حول ضرورة تغيير القانون على مستوى واسع وفي النهاية أدت الحملة التي تبعت هذه الدراما إلى إصلاح تاريخي لقانون الوصاية في مصر.
يهدف مشروعنا “الشرعية والمدنية في العالم العربي“، إلى استكشاف هذه الفجوة بين التعريف المعياري الغربي لـ”المدنية” والصيغة المحلية لمفهوم المدنية في العالم العربي. المشروع مقره مركز الشرق الأوسط في كلية لندن للاقتصاد و العلوم السياسية حصل على منحة سخية من مؤسسة كارنيغي في نيويورك، و سيستمر المشروع حتى 1 أكتوبر/تشرين الأول 2026. يعتمد المشروع على النتائج والشراكات التي أُقيمت خلال المرحلتين السابقتين، والتي بدأت في عام 2019. نهدف إلى معالجة هذه القضية من خلال العمل مع شبكة من الشركاء المؤسسيين والأكاديميين والباحثين في بداية مسيرتهم المهنية من المنطقة، لاستكشاف المظاهر القديمة والمعاصرة للمجتمع المدني وتأثيراته وأنشطته في العالم العربي.
لفهم السياق التاريخي الحديث لتطور الأنشطة المدنية في المجتمعات العربية، نخطط للبناء على شراكتنا مع منصة التاريخ السوري المعاصر، والتي ساعدتنا في المرحلة السابقة من مشروعنا على الكشف عن ثروة من الأدلة التاريخية عن الأنشطة المدنية غير المعروفة في بلاد الشام منذ نهاية القرن التاسع عشر (بما في ذلك، على سبيل المثال، منظمة حقوق الإنسان السورية عام 1925). و نشطت العديد من المنظمات النسائية حتى في العصر العثماني، ليس فقط في القطاع الخيري، بل كانت تطرق أبواب السياسيين طلباً لمزيد من الحقوق والمساواة والمشاركة السياسية. كانت الإضرابات والمظاهرات و العرائض ظواهر شائعة، حتى ضمن الدوائر الإسلامية. كما كانت هناك مناقشات عامة حول القضايا المدنية في المساجد أعقبتها مظاهرات و عرائض.
لفهم أكثر تعمقاً للتطور التاريخي للعمل المدني داخل الدوائر الإسلامية، نخطط لاستكشاف الإرث المدني للمفكر الجزائري المسلم طاهر الجزائري (1852–1920). كان الجزائري مدافعاً صريحاً عن التفكير النقدي وأهمية اكتساب المعرفة الحديثة كطريق وحيد للتنمية المجتمعية، ودعا إلى حرية الصحافة ومقاومة الاستبداد والظلم. لقد ترك إرثاً من العديد من المؤسسات المدنية التي لا تزال فاعلة ومؤثرة حتى اليوم. إن تطور النظام التعليمي بأكمله في سورية، بما في ذلك وزارة التربية و التعليم، جاء على خلفية مؤسسة التربية المدنية الذي أسسها الجزائري مع علماء مسلمين آخرين.
و لفهم السياق المعاصر، أسسنا شراكات مع أكاديميين من مصر وتونس والسودان ولبنان وسورية لاستكشاف ما يعنيه “مدني” للشباب العربي، وكيف يمارسون النشاط المدني وما يقومون به في مواجهة تقلص المساحة المدنية العامة في المنطقة. و لتحليل مفهوم “الدولة المدنية”، نخطط لمواصلة شراكتنا مع المنظمة العربية للقانون الدستوري. تستخدم العديد من الدول والأحزاب العربية مفهوم الدولة المدنية كبديل للدولة العلمانية. ومع ذلك، فإن التفسيرات الدستورية المعاصرة لـ”الدولة المدنية” في الدساتير العربية المختلفة تُعد مربكة ومتناقضة وفي بعض الأحيان تُستخدم لإخفاء ترتيبات غير مدنية تنتهك الحقوق المدنية للمواطنين. نخطط لتحليل مفهوم الدولة المدنية والنظر في كيفية ترجمته دستورياً بطرق مختلفة في دول عربية مختلفة و الإشكاليات التي ظهرت نتيجة لذلك، من خلال العمل مع المنظمة العربية للقانون الدستوري و شبكتها من الباحثين والخبراء العرب.
(Except for the headline, this story has not been edited by PostX News and is published from a syndicated feed.)